خلق الله (تبارك وتعالى) آدم (عليه السلام) كأب البشر أجمعين وأولهم خلقًا، وخلقه من سلالة من طين، فأخبر ربنا ملائكته بأنه سيخلق خلقًا جديدًا من طين، فقال (سبحانه): “وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرًا من صلصال من حمإ مسنون” الحجر: 28، وقال أيضًا: “إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرًا من طين.” ص: 71
وأراد الله أن يؤنس آدم في وحدته فخلق منه زوجة له، لتؤنس وحشته، ورزقهما الله الأبناء، فأنجب منها الذرية التي ملأت الكون بالأبناء والأحفاد فامتلأ الكون وعُمِّر، وصارت بينهما علاقات وحقوق للوالدين وللمقربين، وعلاقات أخرى للدوائر المحيطة بالإنسان سُميت بذوي الأرحام، وأمر بحفظها ومراعاة حقوقها، فقال (سبحانه): “يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا.” النساء: 1
تعريف صلة الرحم
الرحم هو ذلك الموضع في جسم المرأة الذي يتخلق فيه الجنين، فإذا اكتمل ينزل إلى الأرض، والعلاقة الزوجية هي أساس العلاقات الإنسانية في حياة الناس، فقال سبحانه: “وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا ۗ وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا” الفرقان: 54، والرحم هو ذلك الوعاء الذي تتكون فيه هذه المخلوقات التي ستكون نسبًا وصهرًا بين البشر بعد ذلك.
واسم الرحم مشتق من حروف”ر، ح، م”، والتي لا تدخل أي كلمة إلا وتحمل معها معنى الحب والمودة والشفقة والتعاون، فمنها كلمات الرحمة والتراحم، ومنها اسما الله “الرحمن، والرحيم”، ولذلك سميت العلاقات التي تنشأ عن النسب والصهر بـ “ذوي الأرحام” تذكيرًا للعباد بأن الأصل فيها هو التراحم ولذك يأتي معنى صلة الرحم أنه التعاطف والبر والصلة.
حديث عن صلة الرحم
لقد امتلأت السنة النبوية الصحيحة بأحاديث كثيرة للترغيب في صلة الأرحام وفضائل المحافظة عليها وفضل صلة الرحم بين الأقارب، وأخرى في الترهيب والتحذير من قطعها، فمنها:
- عن عائشة (رضي الله عنها) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: “الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَقُولُ: مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ.” رواه مسلم، فهل بعد وصل الله من ربح وهل بعد قطيعته للعبد من خسارة؟
- وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): “تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل مثراة في المال، منسأة في الأثر.” رواه الترمذي
- وفي الحديث السابق ترغيب في صلة الأرحام والحرص على معرفتها وتتبعها، فلا يقطع الإنسان نفسه عن ذوي رحمه، لأنها تربط بينه وبينهم برابطة المحبة وتقويها وتوسع على المسلم في رزقه وأيضًا تطيل العمر بل وتطيل ذكر الإنسان بعد مماته فيكثر الدعاء له بعد وفاته بمدة طويلة فلا يُنسى أثره بسرعة.
- وهذه فضائل يرغب بها كل إنسان، ويؤكد هذا المعنى حديث آخر، فجاء عن أنس بن مالك (رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: “مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ.” رواه البخاري ومسلم
- وفي باب الترغيب أيضًا في صلة الأرحام أن جعلها الله بابًا عظيمًا لدخول الجنة بسلام وأمان، فعن عبد الله بن سلام (رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال أوَّلَ مقامٍ بالمدينة: “أيها الناس: أفشُوا السلامَ، وأطعِموا الطعام، وصِلُوا الأرحام، وصلُّوا بالليل والناسُ نِيام؛ تدخُلُوا الجنةَ بسلامٍ.” رواه البخاري
- وعبد الله بن سلام كان من علماء اليهود في المدينة وقبل أن يُسلم ذهب ليستطلع الأمر وليرى النبي ويسمعه، فكان أول ما سمع منه هذه النصائح الغالية، أن يفشوا السلام بينهم وبين الناس لأنه ما جاء ليدعو إلى الحرب ولكن للسلام والأمان، وأن يقدم المسلمون الطعام للناس، وأن يَصِلُوا أرحامهم مؤمنهم وكافرهم، وأن يُصَلُّوا بالليل والناس نيام.
- فتعجب من هذا النبي الذي يرشد أصحابه بهذه الإرشادات النافعة للخلق والتي لا تدل إلا عن محبة قلبية لهم، فأسلم (رضي الله عنه).
- وجعل الله صلة الأرحام واحدة من الدلالات على صدق الإيمان بالله واليوم الآخر، فعن أبي هريرة أن رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قال: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت.” رواه البخاري
- وهنا جعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صلة الرحم شرطًا من شروط صحة الإيمان، وجعلها أمرًا نبويًا أيضًا، ومعناه أنك إذا كنت مؤمنًا بالله واليوم الآخر حقًا فعليك أن تصل رحمك، ومن خالف الأمر فكأنه يفقد نفسه شرط الإيمان بالله واليوم الآخر وكأنه يعصي الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وفي هذا خطورته الكبيرة ودل على أن معصية هذا الأمر من كبائر الذنوب والمعاصي.
- وعن عليٍّ بن أبي طالب (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: “من سرَّه أن يُمدَّ له في عُمرِه، ويُوسَّع له في رِزقِه، ويُدفَع عنه ميتةُ السوء، فليتَّقِ اللهَ وليصِلْ رَحِمَه.” رواه الحاكم والبزار
- فزاد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في هذا الحديث أن صلة الأرحام تدفع عن المسلم ميتة السوء، فميتة السوء قد يموتها الإنسان على سوء خاتمة كأن يموت عند فعله لمعصية فلا يجد الوقت الذي يفتح الله له باب التوبة منها، وقد يموت على الفضيحة يفتضح الله بها سوء عمله.
- فواصل الرحم يموت مستورًا ويوفقه الله إلى التوبة قبل موته، فإن أكثر ما يشغل الإنسان لحظة موته ليس كيف مات، ولكن على أي حال مات، فإن مات على طاعة يفرح وإن مات على معصية أو على فضيحة يحزن، فتلك هي ميتة السوء التي تمنعها صلة الأرحام.
- وعلمنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن الصدقة تضاعف على أولي القربى، فصلة الأرحام تزيد في الأجر، فقال (عليه الصلاة والسلام): “الصَّدَقَةُ عَلَى المسكينِ صَدقةٌ وهي عَلَى ذِي الرَّحمِ ثِنْتَانِ صَدقَةٌ وصِلَةٌ.” رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيْثٌ حَسَنٌ
- فالصدقة على الفقير من ذوي الأرحام لها ثوابان، ثواب الصدقة على الفقير وثواب صلة الرحم، فلهذا يجب على المؤمن الفطن الطامع في ثواب الله أن يفطن إلى ذوي رحمه ويتفقدهم فيخصهم بالصدقات والهبات والعطايا ففيها الأجر الكبير.
- وكان من أواخر وصايا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في الدنيا أن أوصى بذوي الأرحام خيرًا لعلمه (صلى الله عليه وسلم) أنه سيأتي على الناس أزمنة سيقطعون فيها الأرحام ويستهينون بحقها، فعن أنس (رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال في مرضه: “أرحامَكم أرحامَكم.” رواه ابن حبان
- وفي هذا الحديث وصية المحب لمن يحبهم ويخشى عليهم العقوبة، وكرر الوصية مرتين، بأن يرحموا أرحامهم وذوي قرباهم من ذل الحاجة وسؤال الخلق ولديهم أقارب وذوي أرحام يملكون المال، وأن يرحموهم من ذل الشتات والضياع والشعور بأنهم وحيدون ليس لهم أحد في الدنيا وهم يملكون ذوي أرحام فيسألون عنهم ويهتمون بهم ويرعونهم ويمنعون عنهم تطفل المتطفلين وإيذاء الناس لهم.
- نعم قد لا يحتاج بعض الأرحام مالًا، وقد لا تكون الصلة بالمال، فقد يحتاجون أحيانًا أُناسًا من جلدتهم تربط بينهم روابط دم وأرحام يسألون عنهم مجرد السؤال، ويشاطرونهم في أفراحهم وأحزانهم ويقفون بجوارهم في مشكلاتهم، فكانت وصية النبي الكريم أن يرحموا أرحامهم، والله وكأني اشعر بها أنها وصية لهم بأن يرحموا أنفسهم أولًا من حساب الله وعقابه بأن يقدموا ما يستطيعون لرحمة أقاربهم وذوي أرحامهم.
حديث قدسي عن صلة الرحم
من الأحاديث القدسية عن صلة الرحم اخترت لكم هذا الحديث الشامل الذي يبين حق الرحم وثواب من وصلها وعقوبة من قطعها:
فعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسولُ اللَّه (صلى الله عليه وسلم): “إِنَّ اللَّه (تَعَالى) خَلَقَ الخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتِ الرَّحِمُ، فَقَالَتْ: هَذَا مقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ، قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى، قال: فذَلِكَ لَكِ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّه (صلى الله عليه وسلم): اقرؤوا إِنْ شِئْتُمْ: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ.” رواه البخاري ومسلم وفي روايةٍ للبخاري: فَقَالَ اللَّه (تَعَالَى): مَنْ وَصَلَكِ وَصَلْتُهُ، ومَنْ قَطَعَكِ قطَعْتُهُ.
في هذا الحديث القدسي يخبرنا ربنا (سبحانه) عن حوار في عالم الغيب لم نشهده جميعًا، ولكننا نصدق بحدوثه، ففيه أن بعدما خلق الله الخلق قامت الرحم متجسدة فقالت لربها (سبحانه) إنها تتعوذ به من القطيعة، فوعدها الله وعدًا بأن يصل من وصلها وأن يقطع من قطعها، فرضيت الرحم بهذا الحكم الذي سيضمن أن يصلها الناس رغبة في أن يصلهم الله ويخشون قطيعتها خشية أن يقطعهم الله، وأكدها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالآية الكريمة.
فوائد صلة الرحم
مما سبق من آيات وأحاديث تتضح لنا أهمية صلة الرحم الجمة، ويمكن أن نوجزها فيما يلي:
- تزيد في العمر
- تبارك في الرزق
- تدفع ميتة السوء
- تعجل الثواب في الدنيا قبل الآخرة
- تعمر الديار
- تطيل الآثار
- تشرح الصدور
- تحقق المحبة بين الأهل
- تيسر الأمور وتفتح الأبواب المغلقة
وغير ذلك من الآثار المباركة لها فهي من فضائل الأعمال التي وردت في الحديث عن عُقبة بن عامرٍ (رضي الله عنه) قال: لقيتُ رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) فأخذتُ بيدِه، فقلتُ: يا رسول الله: أخبِرني بفواضِل الأعمال، فقال:”يا عُقبةَ: صِلْ من قطَعَك، وأعطِ من حرَمَك، وأعرِض عمَّن ظلَمَك”، وفي روايةٍ: “واعفُ عمَّن ظلَمَك.” رواه أحمد والحاكِمُ
فضل صلة الرحم
لصلة الأرحام فضائل في الدنيا والآخرة لمن يحرص ويداوم عليها ويتمسك بها ولا يفرط فيها، فمن فضائل صلة الأرحام التي تتحقق للمسلم في الدنيا:
- أن تكثر النعم على المسلم وتدفع عنه النقم في الدنيا ويزيد رزقه ويكون سببًا في طول عمره ويبارك له فيه، فكل منا يحب البقاء والتملك وهي غريزة بشرية ولهذا فكل الناس يحبون هذه الفوائد بأن توسع لهم أرزاقهم وتطول أعمارهم فمن أراد ذلك فليصل أرحامه.
- أن تتقوى بينهم المشاعر الإيمانية كالأخوّة والودّ والمحبّة والتكاتف، فصلة الرحم تحقق هذه النتائج بين المسلمين وتُشيع جوًا من التكافل والتراحم بين المسلمين، ولهذا كانت وصية النبي (صلى الله عليه وسلم) بصلة الرحم لهذه المنافع.
- فبالإضافة إلى تدفع عن المسلم البلاءات الدنيا فإنها تدفع ما هو أعظم منها من بلاءات فتدفع عن المسلم ميتة السوء وهي الميتة التي يختم بها للمسلم على معصية أو تلك الميتة التي يموتها العبد وربه عليه غضبان.
- أما أعظم الفوائد فهي الفائدة العظمى التي لو تحققت للعبد فإنه لن يرجو بعدها فائدة فهي أعظم الأمنيات التي يتمناها العبد أن يدخله الله (سبحانه) جنته، وأن يُكرمه بأن يكون له مكان في مستقر رحمته ودار كرامته، فمن أهم أسباب نوالها أن يصل الإنسان أرحامه ولا يقطعهم.
- فالعبد الذي يصل رحمه يصله الله (تبارك وتعالى)، ومن وصله الله (سبحانه) فلا يضره خسارته لأحد ولا لشيء فهو الرابح الأعظم، فقد وعد الله الرحم بصلة من وصلها وقطع من قطعها.
آية عن صلة الرحم
وصى الله (عز وجل) في آيات القرآن الكريم بحفظ حقوق الأرحام وحذَّر من تضييع مكانتهم، وكذلك فعل رسوله (صلى الله عليه وسلم) في أحاديثه الشريفة، وفيما يلي نستعرض أولًا آيات القرآن الكريم التي أوصى الله فيها بحقوق أولي الأرحام وطالب بحفظها وحذر من الاعتداء عليها، فقال (سبحانه):
- قال (عز وجل): “وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا.” النساء: 1
في الآية الذي ذكرناها أولًا حق الله عباده على تقواه، أي خشيته في السر والعلن، وجعل الرحم بعدها مباشرة في المطالبة فكأن الأمر يقول اتقوا الله واحذروا قطيعة الأرحام فأوفوا بحقها ولا تهملوها، وجاء الأمر بالرحم في هذا الموضوع مناسبًا لبداية الآية التي قررت أننا جميعًا أبناء أب واحد وأم واحدة، فكيف يضيع بيننا واحد منا ونسلبه حقه؟!
- وقال (سبحانه): “وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا.” النساء: 36
ففي هذه الآية تعددت أوامر الله (سبحانه) فبدأ بعبادته أولًا، ثم ثنى بالإحسان إلى الوالدين، وهما من أقرب الدوائر المقربة، ثم أمر بحفظ حقوق ذوي القربى، فتتابعت بعد ذلك الحقوق لتؤكد أن حق ذوي القربى حق يلي حق الله (سبحانه) وحق الوالدين.
- وقال (سبحانه): “فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.” الروم: 38
فعلى كل عبد يريد وجه الله ويريد أن يكون من المفلحين فليؤد حق ذوي الأرحام عليه، فحقهم مقدم على حق المسكين وابن السبيل.
- وقال (جل شأنه): “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.” النحل 90
فجاء الأمر الإلهي مقدِّما حق ذوي القربى أيضًا بعد الأمر بالعدل والإحسان دلالة على أهميته الفائقة، والى توجيه النظر إليه، لأنه حق غالبًا ما يهدره الناس ويفرطون فيه ويضيع، فلذلك يؤكد الله عليه كثيرًا في آياته الكريمة.
- قال (سبحانه): “يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ.” البقرة: 215
وفي هذه الآية الكريمة يسأل الناس عن توجيه نفقاتهم وعن أفضل المواضع التي يرتجون فيها الثواب، فيدلهم الله عن الموطن الأسمى للإنفاق، وهو الإنفاق على الوالدين ويليه مباشرة الإنفاق على ذوي القربى، فالنفقة عليهم أعظم من غيرهم سوى على الوالدين، فهل بعد هذه التوجيهات الإلهية من يتهاون في تضييع حق ذوي القربى؟!
- قال (سبحانه): “فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ.” محمد: 22-23
نختتم الآيات لضيق المقام لأن الله (سبحانه) ذكر أولي القربى ونبه على حقوقهم إحدى عشرة مرة في القرآن الكريم، ولكن نختتم بهذا التحذير الشديد الذي يُساوي بين الإفساد في الأرض وتقطيع الأرحام، فلا يقل تقطيع الأرحام إثمًا عن الإفساد في الأرض، لأن تقطيع الأرحام بالفعل لون من الإفساد المذموم في الأرض، فعقوبتهما شديدة غليظة وهي اللعن أي الطرد من رحمة الله في الآخرة والعمى والصمم عن كل ما ينفعهم في الدنيا والآخرة.
من هم صلة الرحم؟
قُسِّمَ ذوو الأرحام إلى أقسام بحسب قرب الدوائر المحيطة بالإنسان أو بعدها، وتتناسب الحقوق طرديًا مع قرب الدائرة، فتنقسم إلى دائرة الأسرة ودائرة العائلة.
صله الرحم بين الأقارب
- دائرة الأسرة
وهي الدائرة الضيقة المقربة جدًا من الإنسان، فتشمل الوالدين والإخوة والزوجة أو الزوج والأولاد، وهذه أكثر الدوائر حقوقًا على الإنسان، وليس لها حق صلة الرحم فحسب بل إن حقها يفوق حقوق صلة الأرحام.
فالواجب فيها البر والإحسان للوالدين، وحسن البر والصلة بالإخوة فهم تابعون للبر بالآباء في الحقوق، ومنه البر وحسن الخلق مع الزوجة أو الزوج، ثم البر وحسن الرعاية بالأبناء تحقيقًا للمسئولية المُلقاة على عاتقه لتأدية حقوق هذه الدائرة، وهذه الدائرة لا تخضع لعموم الأمر بصلة الرحم وإن كانت داخلة فيه ولكنها أعظم حقًا من حق صلة الرحم.
- دائرة العائلة
وهي الدائرة المُوسَّعة المترتبة على صلات الدائرة الأولى، فالأم لها أسرة أب وأم وإخوة وأخوات، وهؤلاء يمثلون الجد والجدة والأخوال والخالات وما يتفرع منهم، وكذلك أسرة الأب يتفرع منها الجد والجدة والأعمام والعمات.
والإخوة والأخوات يتفرع منهم أزواجهم وأبناؤهم، وهكذا تتسع هذه الدائرة اتساعًا أكبر لتكون ما يسمى بالأرحام، فرتب الله توصية خاصة بهم، وسماهم بذوي الأرحام وأوصى الناس بحفظ حقوقهم.
ولكون حقوق الدائرة الأولى ليست محل موضوعنا الآن، ولكن نؤكد فقط أن حقوقها أعظم من حقوق الدائرة الثانية، لأن الثانية فرع منها، فلا يمكن أن يتصور عاقل أن للفرع حقوقًا أعظم من حقوق الأصل.
حكم صلة الرحم
بمفهوم المخالفة يتضح حكم صلة الأرحام، فقطيعة الرحم محرمة ومن كبائر الذنوب والمعاصي، ولذلك يتضح حكم صلة الرحم أنها واجبة في حدود استطاعة العبد وذلك باتفاق العلماء.
وتتفاوت درجات الوجوب بقدر الاحتياج، فلو كان ذو الرحم فقيرًا لكانت صلته أوجب على ذي رحمه الغني أن يصله بالمال، ويصير وجوب التصدق المال على ذي رحمه الفقير مثله أقل وجوبًا من الأول فتتحول في حقه إلى الاستحباب، فكلما زادت القدرة زاد التكليف بالوجوب على الإنسان المسلم.
عقوبة قاطع الرحم
- في جانب الترهيب من قطعها وعن عقوبة قاطع الرحم، فأخبرنا الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن قطيعة الرحم تحرم المؤمن من أن يكون سابقًا إلى الجنة، بل تؤخر ترتيبه في دخول الجنة جدًا.
- فعن جبير بن مطعم (رضي الله عنه) أن رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قال: “لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ”، يَعْنِي: قَاطِعَ رَحِمٍ. رواه البخاري ومسلم، ومعناه أنه لا يدخلها في أول الأمر مع السابقين بل بعد عقاب لأنه قد فعل كبيرة من كبائر الذنوب والمعاصي.
- وقد اختلف العلماء في عدم دخوله الجنة مطلقًا أم لا يكون من السابقين الأولين، فقال أكثرهم أنه لن يدخل الجنة في البدايات مع المؤمنين وسيحبسه عن الجنة حتى يأذن الله له.
- وقد أكد النبي (صلى الله عليه وسلم) هذا المعنى في حديث آخر فجاء عن أبي موسى (رضي الله عنه) أن النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) قال: “ثلاثةٌ لا يدخُلون الجنة: مُدمِنُ الخمر، وقاطِعُ الرَّحِم، ومُصدِّقٌ بالسِّحر.” رواه أحمد والطبراني والحاكم
- وهذا الحديث أشد وعيدًا على قاطع الرحم، إذ جمعه مع مدمن الخمر والمصدق بالسحر، وهي من الكبائر العظيمة التي يخشى على صاحبها من نار جهنم.
- وأخبر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن قطع الأرحام سبب في عدم قبول الأعمال الصالحة، فعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: سمعتُ رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: “إن أعمالَ بني آدمَ تُعرضُ كلَّ خميسٍ ليلة الجُمعة، فلا يُقبَلُ عملُ قاطِعِ رَحِمٍ.” رواه أحمد
- فقد يجتهد المؤمن في الطاعات ويتعب في المداومة عليها، لكنه بعد ذلك يُفاجأ بأنها ليست في ديوان حسناته، كما حذرنا ربنا بقوله (تعالى): “وقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا.” الفرقان: 23
- والسبب في اختفائها كان قطعه للرحم، ففي كل أسبوع في ليلة الجمعة تُرفع أعمال الأسبوع على الله (عز وجل) فيرد عمل قاطع الرحم، فمهما كان عمله كبيرًا أو عظيمًا لا يقبله الله، فيجد صحيفته خاوية من الأعمال الصالحة التي اجتهد فيها، ضيعتها قطيعته لرحمه، فهل نعتبر؟!
- ولا تمنع قطيعة الرحم قبول الأعمال فحسب بل تمنع صعود الدعاء إلى الله (سبحانه)، ولا تمنع دعاءه لنفسه فقط بل تمنع صعود دعاء الجميع إذا كان من بينهم قاطع لرحم، فقد كان الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) جالِسًا بعد الصبح في حلقَةٍ، فقال: “أنشُدُ الله قاطِعَ رَحِمٍ لمَّا قامَ عنَّا، فإنا نريدُ أن ندعُوَ ربَّنا، وإن أبوابَ السماء مُرتَجَة دون قاطعِ رَحِمٍ.” رواه الطبراني
- ومرتجة أي مغلقة موصدة لا تفتح لهم لوجود قاطع رحم بينهم، ومثل هذه الأحاديث لا يقولها الصحابي إلا بعلم لديه من إخبار رسول الله (صلى الله عليه وسلم) له عن ذلك.
- وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): “ليس شيء أطيع الله (تعالى) فيه أعجل ثوابًا من صلة الرحم، و ليس شيء أعجل عقابًا من البغي و قطعية الرحم، واليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع.” الجامع الصغير
- فثواب صلة الرحم يصل سريعًا جدًا للعبد في الدنيا قبل الآخرة كما أن قطع الرحم يصل عقابه سريعًا جدًا للعبد في الدنيا أيضًا قبل الآخرة، فالتوفيق وكثرة الرزق والبركة فيه وفي الولد وطول العمر وحسن العمل من ثمار صلة الرحم، أما عند قطيعة الرحم فيجد العبد الأبواب مغلقة أمامه ولا يدري لها سببًا، وقد لا يكون سبب لها إلا سوء تعامله مع ذوي أرحامه.
متى يجوز قطع الرحم؟
من الآيات والأحاديث السابقة لا يجوز للإنسان قطع رحمه أبدًا، فحتى لو قطعها الآخرون ينبغي على المسلم أن يحرص على وصلها مرة أخرى بقدر استطاعته.
ولكن إذا تيقن أن ذوي أرحامه يؤذونه أو يدبرون له شيئًا يخشاه فيمكن أن يقلل منها في حالة التضرر وذلك بحسب ما جاء عن فتاوى دار الإفتاء المصرية، وذلك لأنه لا يوجد أي إجماع من الأمة على جواز قطع الرحم مهما اختلفت الأسباب.
قصص عن صلة الرحم
تُروى هذه القصة عن الصحابي الجليل أبي هريرة (رضي الله عنه) حيث جلس للحديث بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) وقبل أن يبدأ فعل كما فعل عبد الله بن مسعود فأقسم على الناس ثلاثًا بهذا النص: أقسمت عليكم لو كان فيكم قاطع رحم فليفارقنا.”
فأدرك رجل من الحاضرين أنه هو المقصود بذلك فخرج من المجلس مسرعًا حيث كان مقاطعًا لعمته منذ سنتين، فتعجبت حين طرق عليها الباب ودخل عليها واسترضاها، فقالت له أخبرني خبرك فحكى لها ما حدث فقالت سأقبل اعتذارك وصلتك بي ولكن بشرط أن تختلي بأبي هريرة وتسأله لم اقسم عليكم بهذا القسم.
فعاد الشاب مُسرعًا إلى المسجد ودخل واستمع إلى باقي الدرس وبعدها اختلى بأبي هريرة (رضي الله عنه) وأخبره وسأله بسؤال عمته له، فقال له أبو هريرة أن النبي (صلى الله عليه وسلم) علمهم أن الرحمة لا تنزل على قوم وفيهم قاطع رحم.
ماذا إذا كان المسلم يصل رحمه لكنهم يقطعونه؟
- نبهنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى أن صلة الرحم لا تكون فِعلًا يُرتجى منه رد الفعل، أو لا تكون مجرد رد فعل على فعل، فمن فعل ذلك فليس واصلًا للرحم بل مكافئًا، قالَ النَّبيُّ (صلى الله عليه وسلم): “لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنِ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا.” رواه البخاري
- فمن كان فعله مكافأة أي فعلًا مقابل فعل فليس مذمومًا في ذاته ولا يعتبر الحديث ذمًا لهذا الفعل، ولكن الذم في حالة قطع الأقارب له فهل سيظل على حسن صلته أم ينقطع؟
- فإذا وصلهم بالرغم من قطعهم كان واصلًا حقيقيًا يبتغي بصلته وجه الله، أما إذا انقطع فإنه لم يكن واصلًا للرحم بل كان يؤدي واجبات، فمن يزره يرد زيارته، ومن يجامله في موقف يرد عليه، وهذه ليست صلة الأرحام المنشودة، فالمؤمن الحق لا تنقطع صلته برحمه حتى لو قطعها أقرباؤه أنفسهم، فهو يوصل كل انقطاع فيها حتى تعود كما كانت.
- وهذه تحتاج إلى نفسية قوية ترجو لقاء الله وتعمل ليوم تلقاه ولا تهتم بالمقابل من ردود الأفعال، فهي لا تعمل إلا لله فقط، وبالفعل فإن هذا التصرف شاق على النفس ولكن أجره عظيم في الدنيا والآخرة.
- وأصدق تعبير عن هذا الموقف ما جاء عن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن رجلاً قال: يا رسول الله: إن لي قرابةً أصِلُهم ويقطَعوني، وأُحسِنُ إليهم ويُسيئُون إليَّ، وأحلُمُ عليهم ويجهَلون عليَّ، فقال:”إن كنتَ كما قلتَ فكأنَّما تُسِفُّهم المَلَّ أي: الرماد الحارّ، ولا يزالُ معك من الله عليهم ظَهيرٌ ما دُمتَ على ذلِك.” رواه مسلم
- حيث أخبره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن الذي يحدث معه ذلك بأنه الرابح اليقيني من هذا الفعل وأن أقرباءه هؤلاء كان يطعمون التراب في أفواههم دلالة على الخسران المبين، وأن الله (عز وجل) يناصر هذا الفاعل وأن معه من الله ظهير أن مانع يمنع عنه كل سوء ويحميه من كل شر ما دام على هذا الفعل.
- ولمثل هذا كانت وصيته صلى الله عليه وسلم الكريمة لصحابته، فعن أبي ذرٍّ الغفاري (رضي الله عنه) قال: “أوصَانِي خليلي (صلى الله عليه وسلم) بخِصالٍ من الخير: أوصَانِي ألا أنظُر إلى من هو فَوقِي وأن أنظُر إلى من هو دُوني، وأوصَانِي بحبِّ المساكين والدنُوِّ منهم، وأوصَانِي أن أصِلَ رَحِمِي وإن أدبَرَت، وأوصَانِي ألا أخافَ في الله لومةَ لائِمٍ.” رواه الإمام أحمد وابن حبَّان
- فأوصاه من ضمن ما أوصاه أن يصل رحمه وإن أدبرت، فإن هذا هو الاختبار الحقيقي للواصل المرتجي للخير والثواب من الله (عز وجل) فقط.
إنها جميلا جدا جدا