كل ما تبحث عنه في عذاب القبر من القرآن والسنة

سلوى المغربي
2020-11-09T03:28:34+02:00
اسلاميات
سلوى المغربيتم التدقيق بواسطة: مصطفي شعبان25 مارس 2020آخر تحديث : منذ 3 سنوات

عذاب القبر
عذاب القبر في الإسلام

حينما جاء جبريل (عليه السلام) إلى المسلمين -وهم لا يعرفون أنه جبريل- ليعلمهم دينهم وجلس وسطهم إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأسند ركبيته إلى ركبتيه ووضع يديه على فخذيه وسأله عن الإسلام فأجابه النبي وقال له جبريل: “صدقت”، وتعجب المسلمون فكيف لهذا السائل أن يسأل الرسول (صلى الله عليه وسلم) ويصدقه، وبعدها سأله عن الإيمان، فقال: “فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ”، قَالَ: “أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ”، قَالَ: “صَدَقْتَ” من حديث جبريل الذي رواه مسلم عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه).

فأركان الإيمان ستة وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، ويلاحظ أنها كلها غيب لم يره المسلم منّا، ولكننا نؤمن بها ونوقن بحقيقتها رغم أننا لم نرها.

هل عذاب القبر حقيقي أم خرافة؟

من الإيمان باليوم الآخر أن يؤمن الإنسان بالموت وما بعده ومن أول منازل الآخرة القبر، فعن هانئ مولى عثمان بن عفان (رضي الله عنه) قال: “كان عثمان بن عفان (رضي الله عنه وأرضاه) إذا وقف على القبر يبكي حتى تبتل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي، وتذكر القبر فتبكي؟! فقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: ” إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه”. رواه الترمذي

فلا يؤمن أحد باليوم الآخر إلا وهو يؤمن بأول منازله وهو القبر، وبما فيه من نعيم وعذاب.

وعجيب أن الذين ينكرون أن في القبر حياة لا يتحدثون سوى عن عذاب القبر، فلا يتحدثون عن نعيمه أبدًا، وكأن الإسلام لا يوجد فيه إلا عذاب القبر فقط، لذا سنتحدث عن إثبات نعيم القبر وعذابه وفق ما قاله العلماء المفسرون لآيات الله (سبحانه) والعلماء الذين تخصصوا في الحديث الشريف جمعًا ودراسةً وتحقيقًا وتفسيرًا.

التفكير في عذاب القبر

يوجد من أهل الإسلام من أنكر نعيم القبر وعذابه من المسلمين على مدى خمسة عشر قرنًا ومن مشارق الأرض ومغاربها سوى فرقة كانت تسمى بالمعتزلة، وهي فرقة ابتعدت كثيرًا عن حقيقة الإسلام وقد ظهرت في أواخر العصر الأموي وكانت قمة نشاطها في العصر العباسي، واندثرت هذه الفرقة بأفكارها إلى أن ظهرت في العصر الحديث بعض الشخصيات التي عادت لإنكار حقيقة الحياة في البرزخ وهو القبر وأنكروا أن في القبر نعيمًا أو عذابًا.

وإثبات أن في القبر حياة تسمى حياة البرزخ قوله (تعالى) في القرآن الكريم: “حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون * لعلي أعمل صالحًا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون”. المؤمنون 99-100

والبرزخ هو الحاجز الفاصل بين شيئين مختلفين، ومرحلة ما بعد الدفن هي مرحلة فاصلة بين الحياة في الدنيا وبين قيام الساعة، أي أن بين الموت الذي يسمى القيامة الصغرى وبين قيام الساعة وتسمى القيامة الكبرى.

إذًا البرزخ هو المسافة الفاصلة بين الموت وبين يوم القيامة، والمقصود به العالم الذي يعيش فيه الإنسان بعد موته ودفنه ولا يعلم عنه أحد من الأحياء شيئًا والذي له قوانينه التي تحكمه والتي لا يعرفها أي من الأحياء، وكلنا سيعرفها إن آجلًا أو عاجلًا، وفي القبر يحاسب الإنسان حسابًا مبدئيًا على يد الملكين وحينها يتلمس النتيجة النهائية لأعماله قبل يوم العرض الأكبر على الله (سبحانه).

وقبل أن نستعرض الأدلة على وجود سؤال ويتلوه نعيم أو عذاب في القبر يجب أن نؤكد على أمر هام وهو النقاش في أمر الحياة البرزخية نقاش في غيب، فلا أحد قد ذهب إلى القبر ثم عاد ليخبرنا بحقيقة ما رأى بل إن الأمر كله غيبي ونحن مأمورون بالإيمان بالغيب بما جاء في القرآن الكريم وبما صح عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم).

بالتالي فهذا الموضوع لا يُناقش باقتناع العقل به أو لا، إنما يناقش بالسؤال المهم هل جاء في القرآن الكريم أو صح عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أم لا؟ أما لو حكمناه بالعقل لنقتنع به فربما أدَّى بنا هذا إلى إنكار الغيب كله، وإنكار أركان الإيمان جميعها لأنها أمور غير محسوسة كما يدعون، إذًا الموضوع يجب أن يخرج من النقاش العقلي لناحية أخرى وهي الثبوت هل ثبتت ذكره في الآيات أم لا؟ وهل ثبت فيما صح عن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) أم لا؟

فإن ثبت فليس أمام كل المسلمين إلا الإيمان به كغيره من الغيبيات التي لم نرها ونؤمن بها، ولو لم يثبُت فنلتزم جميعًا بإنكار وجوده دون حرج لأننا لا نؤمن إلا بما جاء في كتاب ربنا وبما صح من سنة نبيه (صلى الله عليه وسلم) فقط.

نعيم وعذاب القبر في الإسلام

عذاب القبر
نعيم وعذاب القبر في الإسلام

نحن لا نؤمن بشيء وخاصة في مسائل الغيب وهي مسائل الاعتقاد إلا بما جاء في القرآن الكريم فنتحدث عن أدلة نعيم القبر وعذابه في القرآن وما جاء في صحيح السنة النبوية:

عذاب القبر في القرآن

للذين ينكرون عذاب القبر ونعيمه هل يستطيعون أن ينكروا ما جاء في القرآن الكريم عن تعامل الملائكة مع العصاة والمجرمين ابتداءً من لحظة الموت، إذ يقول الله (سبحانه وتعالى) عن تلك اللحظة: “وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ”. الأنفال: 50، 51

فدلالة هذه الآية واضحة أن ملائكة العذاب تستقبل المشركين والمجرمين بضرب وجوههم وأدبارهم وهم لا يزالون بين أيدينا، فإذا كان أحد لا ينكر هذا فكيف ينكرون أن في القبر نعيمًا للمؤمن وعذابًا للكافر والعاصي.

يقول الله (تعالى) متحدثًا عن مؤمن آل فرعون وهو الذي جاهر بكلمة الإيمان أمام فرعون وملأه: “فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ”. غافر: 45، 46

فما معنى النار يعرضون عليها غدوًا وعشيًا؟ ومتى يعرضون عليها إذا كان تكملة الآية تقول “ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب”، فمتى يكون هذا العرض على النار وهو يسبق يوم القيامة؟ فهل يكون في الدنيا؟ كلا فلا يوجد عرض على النار وهم أحياء، فكيف نستطيع فهم الآية إذا لم يكن هذا العرض في القبر فأين يكون؟

وعندما يتحدثون عن القبر لا يتحدثون إلا عن العذاب فقط رغم أن الله ذكر نعيمًا للشهداء فقال (عز وجل) فيهم: “وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ”، آل عمران: 169- 172، فهذا الوعد للمؤمنين الذي استشهدوا في سبيل الله فمتى يتحقق؟

إذا كان ربنا (سبحانه) يقول أنهم أحياء يُرزقون فهل يتحدث عن يوم القيامة أم متى؟ وهل يتحدث عن أنهم في الجنة أم أين؟ فإن قالوا أنه يتحدث عن يوم القيامة، فالجميع سيكونون أحياء مؤمنين وأيضًا كافرين فما فضيلة الشهداء حينئذ عندما يقول ربنا أحياء فالجميع سيكونون أحياء؟ وإذا كان يتكلم عنهم في الجنة فالشهداء وغيرهم من المؤمنين الطائعين سيكونون في الجنة يرزقون فيها من رزق الجنة الذي ما له من نفاد، فما مناسبة هذا الوعد حينئذ؟

إذًا الحدث المقصود والخبر الإلهي والبشارة التي يبشر الله بها الأحياء لا تخص يوم القيامة ولا يتحدث ربنا عن الجنة بدليل قوله (سبحانه) عن الشهداء “يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم”، وهذا دليل على أن هؤلاء الآخرين الذين لم يلحقوا لا يزالون أحياء ولم ينالوا الشهادة بعد، فالشهداء يستبشرون ويتمنون لما رأوا من الكرامة للشهداء أن يلحق بهم إخوانهم وأبناؤهم وأحبابهم، فمتى هذا النعيم من وجهة نظر من يشكك في وجود نعيم أو عذاب في القبر؟

والآيات أكثر من أن تُحصى ولكننا ننتقل إلى:

أحاديث عن عذاب القبر

لا تمتلئ السنة الشريفة بأحاديث تؤكد وجود نعيم وعذاب في القبر تتسم بالسمتين معًا، سمة الكثرة فبلغت حد التواتر وسمة الوضوح الصريح الذي يتحدث عن نعيم القبر وعذابه، فكيف يمكن اعتبار عذاب ونعيم أهل القبور خرافة غير حقيقية؟ وخاصة أن أبا بكر البيهقي -رحمه الله- المتوفي سنة 458هـ جمع أكثر من مائتي حديث في إثبات صحة عذاب القبر ونعيمه في كتابه “إثبات عذاب القبر وسؤال الملكين”، وما ترك من الأحاديث أكثر مما جمع، ومنها:

عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: مرَّ النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) بحائط من حيطان المدينة أو مكة، فسمع صوت إنسانينِ يعذَّبان في قبورهما، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): “يعذَّبان، وما يعذبان في كبير”، ثم قال: “بلى؛ كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة”، ثم دعا بجريدة، فكسرها كسرتين، فوضع على كل قبر منهما كسرة”، فقيل له: يا رسول الله، لِمَ فعلتَ هذا؟! قال: “لعله أن يخففَ عنهما ما لم تيبسا، أو إلى أن ييبسا”. رواه البخاري

ففي هذه الحديث الصحيح الذي رواه البخاري أثبت فيه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن هناك من يعذب في قبره، وأن سبب عذابهما في قبرها أن أحدهما كان يستنزه من بوله وفي معنى هذا نجاسته المستمرة فلا تصح له صلاة مع عدم تطهره من بوله، أما الثاني فكان يمشي بين الناس بالنميمة فتقع العداوات بين الناس.

وفيه أنه وضع الجريد الأخضر على اليابس ليخفف الله عنهما ما لم ييبس وهو لمدة يوم أو يومين على الأكثر وهذه خصيصة له (صلى الله عليه وسلم) فقط وليس كما يفعل بعض الناس أن يضعوا النباتات على القبور ويتعهدوها بالسقيا لئلا تجف ظنًا منهم أنها تنجي الميت في قبره من عذاب القبر.

عن أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها) زوج النبي (صلى الله عليه وسلم): أن رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) كان يدعو في الصلاة: “اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثَم والمَغْرم”، فقال له قائل: “ما أكثَرَ ما تستعيذ مِن المغرم؟”، فقال: “إن الرجل إذا غرِم حدَّث فكذَب، ووعَد فأخلَف”. رواه البخاري

وفي هذا الحديث الذي رواه البخاري أيضًا أثبت أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يستعيذ بالله من عذاب القبر في نهاية الصلاة، ومن فتنة المسيح الدجال أو المسيخ الدجال، فكيف لهؤلاء الذين ينكرون عذاب القبر أنهم لم ينكروا مجيء المسيح الدجال وخاصة أنهما أُثبتا في حديث واحد؟

وعن عائشةَ (رضي الله عنها) أيضًا: أن يهودية دخلت عليها، فذكرت عذاب القبر، فقالت لها: أعاذكِ اللهُ من عذاب القبر، فسألت عائشة (رضي الله عنها) عن عذاب القبر فقال: “نعم، عذاب القبر حق”، قالت عائشةُ (رضي الله عنها): فما رأيتُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعدُ صلَّى صلاة إلا تعوَّذ مِن عذاب القبر”. رواه البخاري

وفي هذا الحديث إثبات أن عذاب القبر ونعيمه ليس معروفًا عند المسلمين وحدهم بل جاء في الكتب السماوية السابقة بدليل أن اليهودية قد دعت للسيدة عائشة أن يعيذها الله من عذاب القبر، ولم تكن السيدة عائشة تعلم عن هذا الأمر شيئًا فسألت النبي (صلى الله عليه وسلم) هل هو حق؟ فأجابها (صلى الله عليه وسلم) بأن عذاب القبر حق وذكرت السيدة عائشة أنها سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يستعيذ منه بعد كل صلاة، فهل كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يدعو ويستعيذ بالله من شيء خرافي لا وجود له؟

وعن عوف بن مالك (رضي الله عنه) قال: صلَّى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على جنازة، فحفِظْتُ من دعائه وهو يقول: “اللهم اغفر له وارحَمْه، وعافِه واعفُ عنه، وأكرِمْ نزله، ووسِّع مُدخَله، واغسِلْه بالماء والثلج والبَرَد، ونقِّه مِن الخطايا كما نقَّيْتَ الثوب الأبيض مِن الدَّنَس، وأبدِلْه دارًا خيرًا من داره، وأهلًا خيرًا من أهله، وزَوْجًا خيرًا من زوجه، وأدخِلْه الجنة، وأعِذْه مِن عذاب القبر، أو مِن عذاب النار”، قال: حتى تمنيتُ أن أكون أنا ذلك الميت”. رواه مسلم

ففي هذا الحديث بعد أن صلَّى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صلاة الجنازة على ميت مسلم فأخذ رسول الله يدعو للميت بدعوات منها أن يُعيذه الله من عذاب القبر لدرجة أن الصحابي عوف بن مالك تمنى أن لو كان هو الميت لينال بركة دعاء الرسول (صلى الله عليه وسلم)، فهل كان رسول الله يدعو للميت بأن يعيذه الله من شيء خرافي أو خيالي لا وجود له؟ أم يدعو ويعيذه بالله من عذاب حقيقي سيقع لبعض الناس الذين يستحقون العذاب في القبر على أفعالهم؟

والأحاديث كثيرة جدًا ونكتفي بذكر هذا الحديث الطويل الذي شرح كل ما يتمنى المسلم معرفته ابتداء من لحظات خروج الروح حتى انتهاء رحلة الحساب في القبر ليقطع الشك باليقين، فهذه الرحلة التي لا يعلم أي أحد منا عنها شيئًا إلا عن طريق الوحي، فكل من سلكها لم يعد ليحكي لنا عنها.

رحلة العبد المؤمن والعبد الكافر إلى الله وأسباب عذاب القبر

وأسباب عذاب القبر
رحلة العبد المؤمن والعبد الكافر إلى الله

فعن البراء بن عازب (رضي الله عنه) قال: خرجنا مع النبيِّ (صلى الله عليه وسلم) في جنازةِ رجلٍ من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولَما يُلحد، فجلس رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مستقبل القبلة، وجلسنا حوله، وكأن على رؤوسنا الطير، وفي يده عُودٌ ينكت في الأرض، فجعلَ ينظر إلى السماء، وينظر إلى الأرض، وجعل يرفع بصره ويخفضه، ثلاثاً، فقال: “استعيذوا بالله من عذاب القبر، مرتين، أو ثلاثاً، ثم قال: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ثلاثاً”.

يروي الصحابي الجليل البراء بن عازب (رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) خرج في جنازة مسلم وقبل الدفن جلس الرسول وهو يستقبل القبلة وجلس الصحابة كلهم حوله ولا يتحرك أحد من مكانه وكأن طيرًا على رؤوسهم وكان في يده خشبة صغيرة أو نحوها وهو ينظر إلى السماء تارة والى الأرض تارة ثلاث مرات ثم قال للصحابة استعيذوا بالله من عذاب القبر ثلاث مرات فاستعاذوا واستعاذ نبينا (صلى الله عليه وسلم) من عذاب القبر، وفي هذه دليل كاف على إثبات أن في القبر عذابًا ونعيمًا، وهو ما سيوضحه الرسول (صلى الله عليه وسلم) لاحقًا.

ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء بيضُ الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كَفَنٌ من أكفان الجنة، وحنوطٌ من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مَدَّ البصر، ثم يجيئُ ملَكُ الموت (عليه السلام) حتى يجلسَ عند رأسه فيقول: “أيتها النفس الطيبة، وفي روايةٍ: المطمئنة، اخرجي إلى مغفرةٍ من الله ورضوان”، قال: “فتخرج تسيلُ كما تسيلُ القطرة من فِيِّ السقاء، فيأخذها”.

ثم يحكي الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن العبد المؤمن في اللحظات الأخيرة من حياته قبل خروج روحه بلحظات فيرى كائنات ليست من أهل الدنيا، هم الملائكة بوجوه بيضاء مشرقة كأن الشمس تشرق من وجوههم ومعهم كفن من الجنة أتوا به خصيصًا لهذا العبد المؤمن ومعهم عطر من عطور الجنة ويراهم يجلسون على صفين أمامه مد بصره، لا يمنعهم حائط ولا غيره، فيطمئن قلب العبد المؤمن لهذه الوجوه الطيبة ولهذا الكفن من الجنة ويشم العطر الذي جاءوا به من الجنة فيستريح ويسعد.

وما هي إلا لحظات حتى يأتيه ملك الموت المكلف بقبض روحه فيجلس بجانب رأسه فيقول له بصوت هادئ أيتها النفس الطيبة أو المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، فتستجيب الروح فتخرج بيسر وسهولة كما تسيل قطرة الماء من فم قربة الماء فيأخذها ملك الموت.

وفي روايةٍ: حتى إذا خَرَجَت رُوحه صلَّى عليه كُلُّ ملَكٍ بين السماء والأرض، وكلُّ ملَكٍ في السماء، وفُتحت له أبواب السماء، ليسَ من أهل بابٍ إلا وهم يدعون الله أن يُعرَج بروحهِ من قبلهم، فإذا أخذها لم يَدَعُوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكَفَن، وفي ذلك الحنوط، فذلك قوله تعالى: ” تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ” الأنعام: 61، ويَخرُج منها كأطيبِ نفحةِ مسكٍ وُجدت على وجه الأرض.

فإذا ما خرجت روح هذا العبد المؤمن صلت عليه أي دعت له كل الملائكة التي بين السماء والأرض والتي في السماء وفتحت أبواب السماء جميعها تنتظر أن تمر عليهم هذه الروح المؤمنة والملائكة التي حول كل باب من هذه الأبواب المفتوحة جميعها تدعو الله أن تمر عليهم روح المؤمن وهي في رحلتها إلى الله ابتهاجًا بها وسرورًا.

فإذا أخذ ملك الموت روح هذا العبد لم يتركها الملائكة الذين نزلوا الأرض خصيصًا لاستقبالها لم يتركوها في يد ملك الموت لحظة واحدة فيتسلمونها منه ويكفنونها في الكفن الذي أحضروه من الجنة ويطيبونها ويعطرونها بالعطر الذي جاءوا به من الجنة، فتشع رائحة هذه الروح المؤمنة بهذا العطر كأطيب رائحة وجدت على ظهر الأرض.

قال: “فيصعدون بها فلا يَمُرُّون يعني بها على ملإٍ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الرُّوح الطيِّب؟ فيقولون: فلانُ بنُ فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يُسمُّونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيُفتح لهم، فيُشيِّعه من كلِّ سماءٍ مُقرَّبوها إلى المساء التي تليها، حتى ينتهى به إلى السماء السابعة، فيقولُ اللهُ (عزَّ وجل): “اكتبوا كتابَ عبدي في علِّيين”، “وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ”. المطففين: 19 – 22

فيُكتب كتابُه في علِّيين، ثمَّ يُقال: أعيدوه إلى الأرض، فإني وَعدتهم أني منها خلقتهم، وفيها أُعيدهم، ومنها أُخرجهم تارةً أُخرى، قال: “فيُردُّ إلى الأرض، وتُعاد روحه في جسده”.

فتصعد الملائكة بهذه الروح الطيبة المطمئنة وكلما مروا على مجموعة من الملائكة شموا رائحتها وسألوا من هذه الروح الطيبة فيقول الوفد لهم روح فلان بن فلان بأكثر الأسماء التي كان يحب أن ينادَى بها في الدنيا، حتى يصلوا إلى السماء الدنيا وهي أول سماء فوقنا فيستأذنون أن تفتح لهم الأبواب، فيأذن لهم الملائكة حراس الأبواب.

ثم يشارك هذا الموكب العظيم أفضل الملائكة في هذه السماء حتى يصلوا إلى السماء التي تليها فيتكرر الموقف حتى يصل بها ملائكة الوفد المبارك إلى السماء السابعة فيقول الله لهم: “اكتبوا كتاب عبدي في عليين”، فيكتبون اسمه في عليين وهي مستقر أرواح المؤمنين ثم يأمرهم الله أن يعيدوه إلى الأرض حتى يدفن فيعيدونه إلى الأرض وتعاد روحه مقترنة بجسده لحظة دفنه.

قال: “فإنه يسمع خفقَ نعال أصحابه إذا ولَّوا عنه مدبرين، فيأتيه ملَكَان شديدا الانتهار، فينتهرانه ويُجلسانه، فيقولان له: مَن ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: دينيَ الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجلُ الذي بُعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدَّقت، فينتهره فيقول: مَن ربُّك؟ ما دينك؟ من نبيُّك؟ وهي آخرُ فتنةٍ تُعرضُ على المؤمن”.

فتصل الروح في الجسد في لحظة الدفن عندما يغلقون القبر عليه ويتركه الملائكة ويسمع صوت أحذية أصحابه الذين جاءوا لشهود لحظة دفنه، فيدخل عليه ملكان لسؤاله وهو في قبره، ومن صفات الملكين أنهما شديدا الانتهار، أي أنهما جادان متجهمان لا يلاطفان أحدًا ويتصرفان بحدة، فيجلسانه بشدة وحدة ويسألانه ثلاثة أسئلة من ربك؟ وما دينك؟ وماذا تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟

إنها أسئلة لا يجيبها الإنسان بلسانه ولا يستطيع حفظ إجاباتها، فصاحب العمل الذي يرضي الله في حياته هو من يستطيع الإجابة بيسر وسهولة فالله هو الذي يذكره ويثبته بالجواب الصحيح، فالمؤمن الصادق سيقول ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد (صلى الله عليه وسلم)، فيقولون له: “وما دليلك على هذه؟”، فيقول: “قرأت القرآن الكريم فآمنت بما فيه وصدقته”، وهو آخر امتحان يمتحن الله به عبده المؤمن.

فذلك حين يقول الله (عز وجلَّ): “يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا” إبراهيم: 27، فيقول: “ربيَ الله، ودينيَ الإسلامُ، ونبيي محمدٌ (صلى الله عليه وسلم)”، فيُنادي منادٍ في السماء: “أنْ صَدَق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة”، قال: “فيأتيه من رَوحها وطيبها، ويُفسح له في قبره مَدَّ بصره”.

فعند إجابته بهذه الإجابات -وهي تثبيت من الله للعبد وليست ناتجة عن علم الدنيا بل عن العمل الصالح فيها- يسمع الجميع صوتًا من السماء يقول: “أن صدق عبدي فافرشوا له قبره من فرش الجنة وافتحوا له بابًا في قبره إلى الجنة”، فهذا هو نعيم القبر، فتهل عليه نسائم الجنة ويشم هواءها وعطرها ويتسع قبره مد بصره كأنه في قاعة فسيحة ممتدة مد البصر فلا ضيق ولا ظلمة ولا تراب بل هو فرش من الجنة وفيه باب مفتوح إلى الجنة، ولكنه سيشعر بالوحدة حتى تقوم الساعة، فيستعد للمفاجأة التي تسره.

قال: “ويأتيه، وفي رواية: يُمثَّل له رجلٌ حَسَنُ الوجه، حَسَنُ الثياب، طيِّبُ الريح”، فيقولُ: “أبشر بالذي يسرُّك، أبشر برضوانٍ من الله، وجناتٍ فيها نعيمٌ مقيمٌ، هذا يومك الذي كُنت تُوعد”، فيقول له: “وأنت فبشَّركَ اللهُ بخيرٍ، مَن أنتَ؟ فوجهك الوجهُ يَجيئُ بالخيرِ”، فيقول: “أنا عَمَلُك الصالح، فوالله ما عَلِمْتُك إلا كُنتَ سريعًا في طاعةِ الله، بطيئًا في معصيةِ الله، فجزاك الله خيرًا”، ثم يُفتح له بابٌ من الجنة، وبابٌ من النار، فيُقال: هذا منزلك لو عصيتَ الله، أبدلكَ اللهُ به هذا، فإذا رأى ما في الجنة قال: ربِّ عجِّل قيام الساعة، كيما أرجع إلى أهلي ومالي، فيُقال له: اسكن.

وهو في قبره وحيدا يرى رجلًا يدخل عليه، وجهه جميل وثيابه جميلة ورائحته عطرة، فيستبشر به وبوجوده معه، فيقول له هذا الضيف: “أبشر برضا الله عليك أبشر بالجنة التي كنت تنتظرها وتعمل لها وتعاني من أجلها، ستدخلها وستسعد فيها بالنعيم الدائم”، فيفرح العبد ويستبشر ويسأله: “من أنت؟ فوجهك الحسن لا يأتي إلا بالخير”، فيقول له: “أنا عملك الصالح، أنا صلاتك وصيامك، أنا خطواتك للمساجد، أنا أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر، أنا أنا ويعدد له أعماله الصالحة، فوالله لقد كنت سريعًا في الطاعة بطيئًا إلى المعصية فجزاك الله خيرًا، ثم يفاجأ بأن يجد بابين قد فتحا، باب إلى الجنة وباب إلى النار، فيضطرب العبد المؤمن فيُقال له: “هذا مكانك في النار لو كنت عصيت ربك وقد أبدلك الله بابًا إلى الجنة”.

فيسترد أنفاسه ويسعد ويدعو ربه أن يعجل قيام الساعة حتى يدخل المكان الذي يراه من الجنة وحيث يرى أهله وأحبابه، فيقال له اسكن أي استرح في هذا المكان من عناء الدنيا حتى تقوم الساعة وتدخل الجنة.

فإن هذا هو العبد المؤمن وهذا هو النعيم الذي كتبه الله له في القبر، فليس القبر كله عذاب فقط، ففيه النعيم للمؤمن، وما العذاب إلا للكافر أو العاصي نعوذ بالله من ذلك.

ثم يستكمل الرسول (صلى الله عليه وسلم) الجانب الآخر، ببيان وضع الكافر أو المنافق الفاجر عند الموت وعند القبر، وقبل أن أذكره أقول لكم كما قاله الرسول (صلى الله عليه وسلم) لأصحابه “تعوذوا بالله من عذاب القبر”.

قال: “وإن العبد الكافرَ، وفي روايةٍ: الفاجر إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال عن الآخرة، نزلَ إليه من السماء ملائكة غلاظ شداد، سُود الوجوه، معهم الْمُسُوح من النار، فيجلسون منه مَدَّ البصر، ثم يجيئُ مَلَكُ الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفسُ الخبيثةُ اخرجي إلى سَخَطٍ من الله وغضبٍ، قال: فتفرَّقُ في جسده فينتزعها كما يُنتزعُ السَّفُّودُ الكثيرُ الشعب من الصوف المبلول، فتقطع معها العُرُوق والعَصَبُ”.

فيحكي الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن العبد الكافر أو الفاجر في اللحظات الأخيرة من حياته قبل خروج روحه بلحظات، فيرى كائنات يبدو من مظهرها أنها ليست من أهل الدنيا، هم ملائكة العذاب، فيجدهم غلاظًا شدادًا بوجوه سوداء مظلمة ومعهم مسوح من النار وهي من ثياب أهل النار أتوا به خصيصًا لهذا العبد الكافر والفاجر، فيضطرب قلبه ويتغير وجهه عندما يراهم يحيطون به ويجلسون صفين أمامه مد بصره وكأنه سيهرب منهم وكأنهم يحكمون القبض عليه، فلا يمنعه منهم حائط ولا غطاء ولا يستطيع كل من حوله أن يفعلوا له شيئا، فقد سُلب كل ما يملك من قوة.

ويشتد رعبه وألمه عندما يجد ملك الموت يجلس بجوار رأسه وينادي فيه بغلظة قائلًا: أيتها الروح الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب، فيزداد خوفه وتحاول روحه الفرار في الجسد فتتفرق فيه مختبئة حتى لا تخرج، فينتزعها بقوة ملك الموت وهي متشبثة بالبقاء خوفًا من لقاء الله، فينتزعها كما يشد الإنسان عود الحديد من الصوف المبلول فتقطع وهي خارجة كل عرق وكل عصب وهو ألم ما بعده ألم، أشد من كل ألم حدث له في حياته وهو لا يدري أن هذا الألم هو بداية للآلام وليس نهاية لها.

“فيلعَنُه كُلُّ مَلَكٍ بين السماء والأرض، وكلُّ ملك في السماء، وتُغلق أبواب السماء، ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله ألا تعرج رُوحه من قبلهم، فيأخُذُها فإذا أخذها لم يَدَعُوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسُوح، ويَخرجُ منها كأنتنِ ريحِ جيفةٍ وُجدت على وجه الأرض”

فإذا ما خرجت روح هذا العبد الكافر والفاجر لعنته أي دعت عليه كل الملائكة التي بين السماء والأرض والتي في السماء بالطرد من رحمة الله، وأغلقت أبواب السماء جميعها حتى لا يمر منها إلى الله، والملائكة التي حول كل باب من هذه الأبواب المغلقة جميعها يدعون الله أن لا تمر عليهم روح هذا الكافر والفاجر كرهًا لها وبغضًا، فإذا انتزع ملك الموت روحه لم تدعها الملائكة في يده لحظة واحدة يلفونها في هذا المسوح في ثياب النار وتخرج منها رائحة منتنة مثل أنتن رائحة جيفة ظهرت على وجه الأرض.

“فيصعدون بها، فلا يَمُرُّون بها على ملأٍ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروحُ الخبيثُ؟ فيقولون: فلانُ بنُ فلانٍ بأقبح أسمائه التي كان يُسمَّى بها في الدنيا، حتى يُنتهى به إلى السماء الدنيا، فيُستفتح له فلا يُفتح له، ثم قرأ رسول الله (صلى الله عليه وسلم): “لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ” الأعراف: 40، فيقول الله (عزَّ وجل): اكتبوا كتابه في سجِّينٍ في الأرض السفلى، ثم يُقال: أَعيدوا عبدي إلى الأرض فإني وعدتهم أني منها خلقتهم، وفيها أُعيدهم، ومنها أُخرجهم تارةً أخرى، فتُطرحُ رُوحه من السماء طرحًا حتى تقعَ في جسده، ثم قرأ: “وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ”. الحج: 31

فتصعد ملائكة العذاب بهذه الروح برائحتها المنتنة فتتأذي كل الملائكة من نتن الرائحة ويسألونهم: “روح من هذه؟” فيقولون: “اسمه ولكن بأكثر الأسماء التي كان يكرهها في الدنيا”، حتى إذا وصلوا إلى السماء الدنيا يجدون أبوابها مغلقة، فيطرقون الأبواب لفتحها لكنها موصدة فهؤلاء لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة إلا لو دخل الجمل الكبير من عين الإبرة الضيقة وهذا مستحيل.

فينادي الله عليهم أن اكتبوا اسم هذا العبد في سجين وهي ملتقى أرواح الكافرين والعصاة وهي في الأرض السفلى، ويأمرهم أن يعيدوها إلى الأرض، وعند سماع الملائكة لهذا الأمر لا يترفقون بهذه الروح الخبيثة بل يرمون بها من السماء ليتخلصوا من عبء حملها ونتن رائحتها، ثم تهوي الروح إلى الأرض فتنزل حين الدفن لتلتحق بالجسد في القبر.

“فتُعادُ روحه في جسده، قال: فإنه ليَسمع خَفقَ نعال أصحابه إذا ولَّو عنه، ويأتيه مَلَكان شديدا الانتهار، فينتهرانه، ويُجلسانه، فيقولان له: مَن ربُّك؟فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان: فما تقولُ في هذا الرجل الذي بُعثَ فيكم، فلا يهتدي لاسمه، فيُقال: محمدٌ! فيقول: هاه هاه لا أدري، سمعتُ الناسَ يقولون ذاك! قال: فيُقال: لا دريتَ ولا تليتَ، فيُنادي مُنادٍ من السماء: أن كذب، فأفرشوا له من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار، فيأتيه من حرِّها وسمومها، ويُضيَّق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه”

فيغلق عليه القبر ويسمع صوت أصحابه الذين جاءوا لتشييعه ويتمنى أنهم لو بقوا معه، ولو بقوا معه ما نفعوه، فيأتيه الملكان ومن صفتهما على المؤمن والكافر أنهما شديدان متجهمان فيجلسانه بقوة ويسألانه: “ما ربك؟”، فلا يدري كيف يجيب، فهو لم يعرف في الدنيا ربًا وكان يسير فيها وفق هواه، وكان لا يلتزم فيها بطاعة ربه بل يمكن أن يكون في الدنيا محاربًا لله ومحاربًا لأهل طاعته، اليوم لا ينطق بجواب، والعمل هو الذي ينطق العبد وليس لسانه وفصاحته وعلمه، فيقول: “لا ادري”.

فيسألانه: “وما دينك؟”، فيقول: “لا أدري”، فيسألانه: “وماذا تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟”، فيقول: “لا أدري”، فيقولون: “لا دريت ولا تليت بمعنى”، خبت وخسرت، فيسمع الجميع مناديُا من السماء: “افرشوا له فراشًا من النار في قبره وافتحوا له بابًا إلى النار يأتيه من صهدها وحرها ويضيق قبره عليه مهما كان فسيحًا حتى أنه من ضيق القبر تتكسر أضلاع قفصه الصدري وتتداخل في بعضها البعض، ليستعد للمفاجأة الكبرى.

“ويأتيه، وفي رواية: ويُمثَّلُ له رجلٌ قبيحُ الوجه، قبيحُ الثياب، مُنتنُ الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كُنتَ تُوعد، فيقول: وأنت فبشرك الله بالشرِّ، مَن أنتَ؟ فوجهك الوجهُ يجيئ بالشرِّ؟ فيقول: أنا عملُكَ الخبيث؟ فوالله ما علمتُ إلا كُنتَ بطيئاً عن طاعة الله، سريعًا إلى معصية الله، فجزاك الله شرًا”.

فلم يكفه أنه في قبر مظلم ضيق في حر شديد مفتوح له باب من النار إذ يفاجأ بدخول رجل شكله مرعب وجهه قبيح وملابسه قبيحة ورائحته منتنة، ليرافقه في هذا المكان الضيق إلى أن تقوم الساعة، فيكلمه هذا الضيف ليزيد خوفه وألمه وحزنه، ليقول له: “ستأتي عليك أيام أشد مما أنت فيه فلن يرحمك ربك جزاء بما فعلت”، ويظل يهدده ويتوعده فيسأله العبد الميت :”من أنت؟ فوجهك لا يأتي إلا بشر”، فيقول له: “أنا عملك الخبيث، أنا كذبك أنا نفاقك، أنا تضييعك للأمانات، أنا تركك للطاعات وفعلك للسيئات، أنا استحلالك للحرام، أنا ظلمك للعباد”، ويظل يعدد له أفعاله السيئة الخبيثة ويقول له فوالله لقد رأيتك تتثاقل عن كل خير وتتسارع إلى كل شر فيجازيك الله بمثل عملك.

“ثم يُقيَّضُ له أعمى أصمُّ أبكمُ في يده مِرْزَبَّةٌ! لو ضُرب بها جبلٌ كان تراباً، فيضرِبُه ضربةً حتى يصير بها ترابًا، ثم يُعيده الله كما كان، فيضرِبُه ضربةً أُخرى، فيصيحُ صيحةً يَسْمَعُه كلُّ شيءٍ إلا الثقلين، ثم يُفتح له بابٌ من النار، ويُمَهَّدُ من فُرُشِ النار،فيقولُ: ربِّ لا تُقم الساعة”

ثم يأتيه عذاب أشد يأتيه كائن أعمى لا يرق له معه مرزبة من الحديد لو ضرب بها جبلًا لتحول إلى تراب من قوة الضربة وشدتها، فيضربه ضربة فيتناثر في كل مكان ويصيح صيحة ألم وفزع يسمعها كل الخلائق من حيوانات وطيور وغيرها على الأرض إلا الإنس والجن، ثم يعيده الله ليكرر الكائن الأعمى ضربته مرة ثانية وثالثة إلى أن تقوم الساعة، وحينها ورغم كل هذا العذاب يدعو ربه ويقول: “رب لا تقم الساعة”، لأنه تيقن أن ما فيه الآن هو نعيم بالنسبة لما سيحدث له بعد ذلك، ونعوذ بالله من هذا المصير ، والحديث رواه الإمام أحمد وغيره.

عذاب القبر للنساء

عذاب القبر
عذاب القبر للنساء

ليس للنساء حساب مختلف عن الرجال في القبر فالكل يسأل الأسئلة الثلاثة والكل يحاسب والكل إما أن ينعم أو يُعذَّب في قبره، فالنساء لا تختلف عن الرجال.

عذاب القبر لتارك الصلاة

في الحديث الشريف الذي حسنه الألباني عن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: “إن الميت إذا وضع في قبره إنه يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه، فإن كان مؤمنًا كانت الصلاة عند رأسه وكان الصيام عن يمينه وكانت الزكاة عن شماله وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه، فيؤتى من قبل رأسه فتقول الصلاة ما قبلي مدخل، ثم يؤتى عن يمينه فيقول الصيام ما قبلي مدخل، ثم يؤتى عن يساره فتقول الزكاة ما قبلي مدخل، ثم يؤتى من قبل رجليه فتقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس ما قبلي مدخل”.

إذًا فالصلاة والصيام والزكاة وغيرها من العبادات تحيط بالمسلم الميت لتدافع عنه، فتارك الصلاة كتارك العبادات الأخرى لن يجد من يدافع عنه في قبره.

عذاب القبر للزاني

في الحديث الذي رواه البخاري عن الرؤيا التي رآها النبي (صلى الله عليه وسلم) وقصها على صحابته الكرام جاء فيها وصف لعدة مشاهد: “فانطلقنا فأتينا على مثل التنور قال: وأحسب أنه كان يقول: فإذا فيه لغط وأصوات، قال: فاطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا”.

وفي نهاية الحديث استفسر (صلى الله عليه وسلم) عن تأويل تلك المشاهد فقيل له عن مشهد الرجال والنساء العراة: “وأما الرجال والنساء العراة الذين في مثل بناء التنور فإنهم الزناة والزواني”، وقد قال العلماء أن هذا عذابهم في القبر.

عذاب القبر للأطفال

الأطفال في أصح الأقوال لا يمتحنون لأنهم ما وصلوا إلى سن التكليف لأن السؤال والامتحان للمكلفين، فإذا لم يكن هناك سؤال فلا عذاب في القبر، بإذن الله.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *